التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بين التقدم والتقادم، “قناعة”

  






لم أسمع عن مايك لازاريدس إلا من أيام قليلة، واتوقع أن الأغلبية لا تعرف من هو، إلا أن قصته حفزتني لكتابة هذا المقال، الأخ مايك هو مبتكر “بلاك بيري”، هو صانع ثورة رسائل الهواتف النقالة في 2009، وهو ايضاً من هبطت حصة شركته في السوق إلى 1% في 2014 بعد أن كانت تشكل أكثر من 50% في أوجها. لماذا لم يصمد مايك؟ بعيداً عن طرق الإدارة وصياغة الاستراتيجيات، أكبر خطر واجه مايك هو “التقادم” أغتر مايك بفكرته الجبارة، وأخذته العزة بعقله وأنه الوحيد الذي يأتي بالأفكار المربحة، أقنعه عقله أنه يمكن أن يبقى في مكانه الناجح من جراء استخدام طريقة تفكيره وحده، وهنا بدأ ناقوس الخطر في الاقتراب.

لم ينتبه مايك أن أغلب النجاحات تكمن في البحث عما لانعرف، وأن التكيف يعني أن نملك ذهناً واسعاً يستوعب المتغيرات ويتعايش معها، ويعرف كيف يجد فرصة في كل مأزق. قرأت في كتاب “Think Again” لآدم جرانت أن عقولنا تستخدم أحد ثلاث أدوار لمواجهة الفكرة الجديدة، الدور الأول هو دور الواعظ والذي يحمي مُثله العُليا ولا يقبل أن تهدد قناعته فكرة جديدة، فيبدأ بالخطب الطويلة والمنذرة من خطر كل جديد. والدور الثاني هو دور المدعي العام الذي يهاجم الفكرة الجديدة بإظهار كافة عيوبها ويجتهد كثيراً في بناء الحُجج التي تجعل من الفكرة الجديدة غير قابلة للتطبيق أو تافهة. الدور الثالث هو دور السياسي، الذي يبدأ بمساومة المحيطين والحصول على ولائهم ضد تنفيذ هذه الفكرة ويصنع انصاراً ومؤيدين لإيقافها أو تحجميها. إلا أن الشخص الناجح دائماً هو من يمارس دور العالم، المستكشف، الذي يرى في كل جديد فرصة، يعيد التفكير في مسلمات الفكرة ويشكك في كل ما يعرف إلى أن يثبته أو ينفيه، يستعمل نظارة الفضول التي تسعى لتعرف وتعيد تقييم الحقائق وفق ما يرد من معطيات جديدة، هذا الشخص يملك عقلاً يبحث دائماً عن الحقيقة وليس المسلمات.

لنرى بالمقابل منافس مايك “بلاك بيري”، ستيف جوبز “أبل”، حيث يذكر من عملوا مع ستيف أنهم سمعوه يردد كثيراً في بداياته أنه لن يدخل سوق الهواتف المتنقلة، وأن ما يميز شركته هو الحواسيب وأجهزة الكمبيوتر، إلا أنه سرعان ما تكيف مع الفرصة واستمع لفريق عمله، وناقش وبحث وطور وأقتنع وأصبح الأول عالمياً في مجال الهواتف الذكية. الفرق بين مايك وستيف، أن الأول صنع ثقته في أدوات عقله وطريقة تفكيره وبنى حوله مفكرين ومبتكرين ومتميزين آخرين تكاتفت جهودهم لبناء “الهاتف الأذكى “أبل”. إلا أن مايك صنع ثقته من جراء نتيجة ما أتت به فكرته، ومن اقبال الناس حول منتجه، ومن أرباحه، وجمع حوله تابعين مستفيدين من نجاحه، ومؤدين لكل مخاوفه التي لم تقبل تطوير بلاك بيري بحجج أن الناس اعتادت عليه، وأن الغرض الأساسي من الهاتف هو استقبال المكالمات والرسائل وهذا ما يحققه فعلا من خلال منتجهم. مايك شخصية موهوبة جداً ومميزة، إلا أنه لم يحظ بفكر متكيف، لم يملك مرونة عقلية تمكنه من قيادة السوق والحفاظ على المقدمة.

المرونة العقلية تتطلب تواضعاً فكرياً بالبداية، واعترافاً أن عدم معرفة الأشياء اليوم لا تعتبر نقصاً، إنما التقصير هو التعنت وادعاء المعرفة الكاملة والتعالي عن الاطلاع والبحث عن المعارف الجديدة. المرونة العقلية هي إطلاق العنان للذهن أن يكن فضولياً شغوفاً بالجديد، فلا يزهو كثيراً بما يعرف ولا يرتعب كثيراً أمام ما لا يعرف. وأول مفاتيح فضول الذهن هو حسن الاستماع، المستمع الجيد يفتح لعقله باب الجديد، ويصنع لنفسه سوق الفرص التي يختار منها ويطور ويبني ويجرب. وينجح كثيراً.

في بيئة العمل يمكنك أن تخلق بيئة تشجع الابتكار وتقبل التطوير من خلال تشكيل فريق يتسم بالإيجابية والمرونة العالية، على أن تقوده بتقبل الخطأ والايمان بنتائج التجربة وتعزيز ثقافة البحث عن الدروس المستفادة. لا تشخصن الأمور أبداً وأحرص على الأفكار واعمل على اشراك الجميع في تطوير الفكرة. كما أن أهم سمه هي ان تعزز الأمان الوظيفي للعاملين ولا تربط تقييمهم بأعداد انجازاتهم إنما بمستوى تقدمهم وتطورهم ومساهماتهم. عندما تخلق هذه البيئة، ستحقق الكثير من الإنجازات وستواجه تحديات السوق بثقة، وتعلُّم مستمر، وفرص جديدة.. دائماَ.

خلاصة القول، مفتاح التقدم هو المرونة والبحث عن المعرفة الجديدة، وسبب التقادم الأول هو الثقة العمياء فيما نعرف.

 

نشرت هذه المقالة في صحيفة مال

رابط المقال

بتاريخ: 19 أكتوبر 2021

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جدة ... من جد زعلانة !!

أنشئت المدونة منذ مدة .. أعتقد 3 أشهر .. كنت دائما أسأل نفسي .. ما الذي يمكن أن أكتببه هنا؟ وبأي فكرة ولأي سبب .. ما الذي أكون قد أضفته .. لكن اليوم .. بعد تجربة خمسة أيام مضت منذ السبت 5-12-2009 إلى اليوم الأربعاء 9-12-2009 .. أجد أن برأسي ألف فكرة ... بوجهة فكر واحدة !! أحترت من أين أبدأ .. روح التعاون الرائعة .. متعة العمل التطوعي .. ابتسامة الضمير الذي يقدم خيرا لا يقصد به إلا التأكد من رؤية ابتسامة المحتاج .. النية الطيبة التي يدعمها الله في يد الجماعة .. أم أعكس واقع الضمير المخدر .. ابتسامة الزيف .. هول الكارثة .. منظر الدمار .. فقد الأرواح .. كسرة نفس المحتاج .. عبوس "القائمين عليها" !! كنت في البداية بعيدة نوعا ما عن "قلب الحدث" .. وابتداء من يوم السبت المذكور طرقت "قلب الحدث" وأكتشفت أنه "موجوع" بالفعل .. سيول مدينة جدة يوم التروية من عام 1430 هـ .. كانت مأساوية، مدمرة "لكل ما أعترض طريقها" وكأنها تعلن ثورتها على الضمير المخدر والعين التي لا تبصر .. ! مرت بواديها بعنف .. تؤنبه .. وحالها يق...

نادية خالد العمودي لـ هي : أعيش حياة بسيطة وأؤمن بأن لكل مشكلة حل

نادية خالد العمودي لـ هي : أعيش حياة بسيطة وأؤمن بأن لكل مشكلة حل

سيدو .. فلتسكن روحك أفسح الجنان ..

لم يكن اسطورة ! ولم يشارك في صنع التاريخ ! وليس له يد في "زيادة استهلاك " هذه الأمة ... إنما كان صانعا أساسيا "لنمو سعادتي" لم يكن عالم ذرة ! ولم يسعى لجائزة نوبل! ولم يعلم عن تأثير الكواكب على الأرض .. لكنه كان دائماً عالماً "بحالي" .. سائلا المولى أن يسخر لي مافي السماء والأرض .. كان لابتسامتي "مؤشر" رضا لقلبه .. وكان يراني "وجه الخير" .. كان يستبشر بي .. وترضى نفسه إذا ما عرف ان دعوة له أُجيبت يسأل فيها "مالك السموات والأرض" أن يرزقني ما أتمنى .. لم يكن سيد القوم .. لكن كان سيد القلب .. لم يكن شيخ الحارة .. إنما كان فؤاد "العيلة" .. لم يكن صانع المجد .. إنما كان عمار الطمئنينة .. (سيدو) ... عزائي في فقدك .. احتفال السماء والأرض بك .. كانت تسابقنا الأرض وتسرع لفتها حول الشمس كي تضمك في قلبها بحنان الأم .. وكانت السماء تغني بإسمك وترقص بروحك طرباً .. لتلقى الحي القيوم .. إلا أنني أنا .. يا (سيدو) . .. اشتقت لصوتك وأنت تخبرني أنك "أحسن مني" إذا ما سألتك ...