كتبت في مقال سابق أن الحرية قرار شخصي بالدرجة الأولى، عنيت عندها بـ"قرار" أنه تتم صناعته من قبل الشخص، ولا يمنح أو يهدى أو ينتظر شرعنة أي شخص آخر أو جهة. إنما التشاريع والقوانين والتقاليد هي لكي تحد من مساحة تصرف الشخص أو تزيدها، وبرأيي لا علاقة لها بـ"حرية" هذا الشخص، هي حتى لا تساهم في صناعة أجيال حرة بانفتاحها ولا أجيال مقيدة بقيودها. استطرادا لذاك المقال أردت اليوم أن أسلط الضوء على أن "الجرعة الزائدة" من القيود أو من الانفتاح لها سلبياتها التي تخالف سنن الحياة، والتي لا علاقة لها بـ "حرية" الشخص أو المجتمع.
إن المجتمعات التي تتسم بـ "الجرعة الزائدة" من القيود تحمل في عباراتها ترديد أنها مجتمعات تحد أو حتى تمنع- حدوث الخطأ، وتسعى لتوحيد السلوك حماية للمجتمع، وتحافظ على الأصالة وعلى التقاليد. في حين أن "زيادة جرعة" القيود ضرت هذه الرسالة الأفلطونية ولم تؤدي بواقع الأفراد إلا لمزيد من التشدد الذي يمنع عنهم الحياة، ولضيق الأفق الذي يسد عن أفكارهم الهواء، وللكبت الذي جعل منهم قنابل موقوتة مستعدة للانفجار!. كما أن تشكيل مجتمعات من هؤولاء الأفراد جعل منها مجتمعات ضاعت فيها القيم السليمة واستبدلت بالتقاليد مهما تهالكت، مجتمعات طمست هوية الفرد، وافتقرت لكل مداخل الإبتكار والتطوير والإبداع.
في حين أن المجتمعات التي تتسم بـ "الجرعة الزائدة" من الانفتاح تحمل في عباراتها ترديد أنها مجتمعات تحمي الحرية الشخصية لكل شخص، وتقبل الآخر مهما كان اختلافه، وإنها تدعو للإبتكار والإبداع. إلا أن "زيادة جرعة" الانفتاح ضرت هذه الرسالة البيكادلية ولم تؤدي بواقع الأفراد إلا لمزيد من التوهان عن معنى الحياة، ولتعييم الصورة الحقيقية للحياة بابتكار صور ملونة عديدة حولها وليس عنها، وأدت للمجاهرة بالشذوذ أيا كان نوعه أو مقصده تحت شعار الحرية الشخصية!. كما أن تشكيل مجتمعات من هؤولاء الأفراد جعل منها مجتعات ضاعت فيها القيم السليمة واستبدلت بشعارات تدمير كل الحدود، مجتمعات ضاعت فيها سمة الجماعة، وسهلت كل سبل الانفلات.
وهنا، أشير لأن هذه الحياة لها سنن، لا تبديل لها، كل ما على الأفراد والمجتمعات هو فهمها واستيعابها للوصول لحياة كريمة متوازنة، هذه السنن من طبيعتها أن لها حدود، تتمثل ابسطها، مثلا، في أن لا نبتة ستزهر إلا في تربة خصبة، ولا يمكن أن أنادي تحت شعار "حرية النبتة" أن تزهر في أي تربة مهما جدبت!. كذلك فإن "الحرية" وفقا لسنن الحياة، هي فكر ناضج يبدأ بالقرار وينمو بالتجربة والتمرس ويتكون بالحكمة وينعكس بالتصرف. ممثلا أفرادا وشعوبا رسالتها أكثر وعيا، وسلوكها أكثر إصلاحا في الأرض. ومن الجدير بالذكر أيضا، أن القوانين ليست سنن، إنما هي من وضع الأفراد، تعكس نضجهم ووعيهم، فهي في بعض المجتمعات أقل نضجا من الملتزمين بها، فلا يكون منهم إلا التحايل عليها، وفي مجتمعات أخرى تبدو القوانين أنضج بكثير من الملتزمين بها، فتهمش ولا ينتفع بها.
قد "يعيش" الناس في أي مجتمع، لكن لكي لا يفقد الناس"الحياة" ويحيوها، عليهم أن يفهموا سننها ويتقنوا التعامل معها. كالأرض التي تخضر إذا ما تمت فلاحتها، تحتاج للماء والهواء والنور بحدود، و بدون "جرعة زائدة"، لكي تكون نتيجة الفلاحة أرض مخضرة. كذلك النفس البشرية التي تقرر أن تحيا بحرية، تحتاج الانفتاح والاطلاع والتمرس في الحياة بعدد من الحدود، و بدون "جرعة زائدة"، لكي تكون نتيجة القرار نفس حرة ناضجة.
نادية العمودي
نشرت في جريدة البلاد
http://www.albiladdaily.net/?p=7444
بتاريخ ١٥-٨-٢٠١١
تعليقات
إرسال تعليق