الدعوة إلى الله، هاجس الكثيريين، والقليلين. إلا أن أساليب الدعوة إلى الله، مع اختلافها، فهي تعكس تماما خلفية الداعي، ونفسيته، ومستوى وعيه. لذا، فهي حقا أداة ذات حدين، قد توجد طريقا لله، وقد تكون سببا في اغلاق طرق! بالتالي، فإن المسؤولية التي أرى أن يوليها المرء لنفسه، هي تحري الحكمة في أسلوب دعوته، واستخدام الموعظة الحسنة، والبعد، كل البعد، عن ما أطلقت عليه في هذا المقال «الدعاية لله». فالدعوة لسبيل الله تختلف تماما عن الدعاية له «جل تعالى».
إن «الدعاية لله» تتمثل في ما يستخدمه البعض -ويتداوله بعضا آخر- من حكايات وقصص يقصدون بها ارشاد الناس لدور الله في حياتهم، وهي في الواقع، لا تختلف عن صناعة أغلب «الدعايات» في عالمنا العربي، تجدها عبارة عن مشاهد، المفروض أنها صنعت سيناريو متكامل، إلا أن النتيجة التي خرجت أمام المشاهد هي بالضبط ما يعكس انطباعه المسبق عن المنتج. لذا فلن تجد صانع الدعاية مراعيا لا لسلامة المنطق، ولا حريصا على أن يعكس أفقا جديدا للمتلقي. هذا تماما ما يلحظ على تلك القصص، والتي سمع أغلبنا-إن لم يكن كلنا- عددا منها. كقصة الدبور الذي غرس رأسه في طبلة إذن الشاب الناجح «العاصي»، أو كالعباءة التي رفضت أن تختلع من فوق جثة «المرأة» بعد حادث مروري مرير، أو تلك التي أصابها سرطان فريد من نوعه «فوق الحاجب»!. هذه القصص كثيرا ما ترددت على أسماع جيل كامل، هذا الجيل لم يكن ينقصه الإيمان بالله أصلا، لذا فقد كرست كل تلك القصص لتخدم راويها وتعزز صورة الإله الموجودة مسبقا في أذهانه. ومن كل هذا، لا يخفى على أحد سمات هذا الجيل الذي نشأ تحت وطأة هذا النوع من الإرشاد، فكان التشدد أهم سمه فيه، يليها ضيق الأفق والإنغلاق، وأصبح الهم الأكبر له مراقبة الآخر، للتأكد من أن الدبور لن يلسع، وأن العباءة لن تلتصق!
وبالمقابل، كان في نفس الحقبة، دعاة استخدموا أسلوبا آخر «للدعوة» -يختلف عن الدعاية- تماما. كالذي كان من الدكتور مصطفى محمود مثلا وليس حصرا، فيما ورد منه في سلسلة «العلم والإيمان» وفي عدد كبير جدا من كتبه، أذكر جيدا منها كتاب «رأيت الله». جسدت هذه الحصيلة عظمة الخالق في كل عمل، فعكست أبعاد وأبعاد من دقة صنعه سبحانه وتعالى، وعظمة تحكمه وجبروته ورحمته. الدكتور مصطفى محمود، قص للناس حكاية حياة ملكة النحل، وقصة مسيرة الكواكب في المجرة، وقصص كثيرة عن عظيم إبداع المصور في صنع الإنسان. كما عزز مشاهداته بأحدث ما توصل إليه العقل البشري من علوم، وأرجع ما غاب عن العقل لقوة إيمان وجدان المؤمن بعظمة الخالق. أسلوب الدعوة الواعي المحيط بكل جوانب الحياة واحتياجات البشر ودقة صنعهم وبديع صنع الكون حولهم، هو ما يصحي في قلوب الناس احساسهم بالانتماء لهذا الكون، ويزرع في أنفسهم دور كل فرد في الحفاظ على هذه المنظومة المتكاملة من الصنع البديع. الدعوة لله، هي بإعادة الفطرة السليمة لكل نفس لتجد دورها وتحقق غاية وجودها. هذا الأسلوب يجعل القلوب تتسع لاستيعاب كل الاختلاف الموجود على الأرض، والعقول تزيد وعيا يقبل الآخر، المختلف،- بسلام. يلحقه الكثير من التأمل والقدرة على التحليل التي تجعل التعايش على هذه البسيطة، بكل ألوانها وكل اختلافاتها، يمثل رحلة هذه الحياة.
الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى نور السموات والأرض، وآداتها التي وصى بها تعالى هي متجلية في الآية الكريمة «وادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة». ولاكتساب الحكمة، لا يكفي المرء أبدا قراءة بضع كتب وترديد عدد من «الحكايات»، ولن يكسبه تراكم المعارف والمعلومات شيئا من الحكمة. إنما ما يكسبه الحكمة هو «الحياة» بكل موجاتها وتضاريسها، بعلومها وأعلامها، بكل ألوانها وآفاقها. عيش هذه الحياة ومعايشتها بالحسنى هو مفتاح الحكمة. مفتاح الحكمة التي من أوتيها فقد آوتي خيرا كثيرا، هي التي ستمكن المرء من تسخير كافة المعلومات والمعارف لصنع «الموعظة الحسنى». فلا يمكن للحكمة أن تخالف فطرة البشر، بل إن أهم ميزة للحكمة أنها لا تستخف بالمستمع، وتدعو لاتساع الأفق وتقبل التحليل والتدارس. كما أن ارتباط «الحسنة» بالموعظة في الدعوة أمر لايجب علينا إغفاله، فالحسن ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه. الموعظة الحسنة تكمن في ايجابيتها وبعدها عن كل ما هو سلبي من تخويف وترهيب.
لذلك، فالدعوة لنور السموات والأرض لا يقصد بها الا أن يبصر الإنسان هذا النور، ولا تكون إلا بالحكمة . فهي حق على كل صاحب «حكمة»، بعد أن يكتسبها!.
نشرت بجريدة البلاد
بتاريخ :
18-7-2011م
18-7-2011م
تعليقات
إرسال تعليق